الكاتبة: الاستاذة سوسن المدني.
الميديولوجيا والفراغ الصاخب.
وقبل أن يذهب أيّ منكم بعيداً عن قراءة هذه المحاولة النقاشية، عليّ أن أذكّر بان موافقتكم على شروط “استخدام” هذا الفضاء يعني بالضرورة التعرضّ لمثل هذه المنشورات المطوّلة .. والتي في غالب الأحيان لا تتناسب مع المنشغلين في التسلية والظهور المفتعل وأصحاب النَفَس القصير …
من الواضح أصدقائي أننا على أعتاب الاعتراف بأننا بدأنا بالفعل الاتجاه نحو تأكيد الذات الفردية بعد أن فقدنا معظم موجبات الانتماء الجماعي إلى شيء ما .. وعليه فإننا مختلفون تماماً عن ما كنّا عليه في السابق .. بالرغم من اختلافنا الظاهر أيضاً عن ما سنكون عليه حتى في المستقبل القريب …
لقد تعلَّمت من كتاب “ديفيد راندال” – وكان كبير محرري الأخبار في الاندبندنت – أن واحدة من وظائف وأدوار وسائل الإعلام هي السماح لنشر أفكار أصحاب الفلسفات البديلة .. فما بالكم هنا عبر هذا الأزرق الذي يبدو أنه يسير في اتجاه توحيدنا على فكرة الاختلاف الظاهري والخلاف المبطّن الذي يحتاج إلى مجرد شرارة لظهوره العلنيّ .. حيث سرعان ما يتسبب في “كارثة” توحدنا على رفضها بعد أن ندفع ثمنها معاً دفعة واحدة !
وأرجو منكم أن تسمحوا لي بتجاوز فكرة “سطوة وسائل الإعلام” إلى ما يمكن تسميته – بموجب اجتهاد متواضع – إلى سطوة الثقافة السالبة المحمولة عليها .. دون أيّ رادع معرفي أو ثقافي يوازي التسارع في حجم التغيير .. حيث يعيش كلّ من المستهلك التكنولوجي والمنتج المعرفيّ على شاشة “زرقاء” واحدة .. يخضعون فيها للتأثيرات ذاتها دون حصانة، وبوتيرة زمنية تكاد تكون واحدة أيضاً !
لا يمكن تجاوز الزمن .. هكذا يُقال .. لكن لا يمكن التواصل معه أيضاً أو الإحساس فيه؛ إذ أصبحت الحياة بمجملها “خبر عاجل” نتناوب على الظهور فيه بكلمات وأحداث مختلفة.
يحدث هذا في وقت لا يتوائم فيه التراث الثقافي ولا الموروث الاجتماعي مع معطيات الثقافة الكونية التي أصبحت مُتاحة ومتنوعة ومتشابكة إلى حدٍ بعيد.
هنا .. يغيب الإحساس في المواطنة أو يتناقص على أقلّ تقدير، لأنّ ثمّة إحساس آخر يواصل النمو في وجدان وعقل كلّ منّا .. وهو الإحساس بـ “الفراغ الصاخب” الذي يفضحنا هنا على شبكات التواصل الاجتماعي.
ومن مظاهر ذلك .. توظيف الموروث الديني في أحيان كثيرة، دون أيّ عناية في تمثّل ما يعنيه من قيم وأخلاق، وعبر خطاب أجوف .. وسط انحدار مستمر للذائقة الجمعية وغياب شبه تام للعقل الناقد .. لذا .. تقدّم “الديني” على حساب الأفكار والقيم والأخلاق .. مُفَرَّغاً منها وفاعلاً ضدّها .. لتظهر علينا تلك القناديل العمياء حيث لا نحتاج فيها إلى ضوء أو عتمة !
إنّ امتلاك النواقل والوسائط السريعة (الحامل) اليوم بات في علاقة طردية مع إنتاج المعرفة الإنسانية (المحمول) .. وبالتالي هناك شبه قطيعة بين ما يؤول إليه العالم وبين ما يصل إليه العقل البشري وسط إنشغاله المفرط في ابتكار التكنولوجيا لتسريع وسائل التحايل على لزمن .. حيث يظهر الديني لمقاومة مجموعة متشابكة من المجاهيل للتخلص من حالة متأصلة من الفراغ الصاخب.